المسؤولية-القانونية-للذكاء-الاصطناعي-واقع-أم-خيال؟-1.

المسؤولية القانونية للذكاء الاصطناعي: واقع أم خيال؟

يعيش العالم اليوم في خضم ثورة تكنولوجية هائلة سُميت بالثورة الرابعة عالمياً والتي أرخت بظلالها على جميع مجالات الحياة وكان لها الأثر في تغيير سلوك الأفراد والجماعات. ولعل الذكاء الاصطناعي شكل نواة هذه الثورة باعتبار أنه يحاكي الإنسان في شكله وتفكيره وتعامله مع الغير والأهم الاستقلالية في اتخاذ المواقف والقرارات. إلا أن خصوصية هذا الذكاء وتميزه عن غيره من  التطورات التكنولوجيا طرح إشكالية أساسية هي التالية: ما هي طبيعة المسؤولية الناجمة عن الأضرار التي يسببها الذكاء الاصطناعي للغير؟. تلك الإشكالية تطرح في الواقع جملة تساؤلات فرعية تتمحور حول إمكانية الاعتراف بالشخصية القانونية للذكاء الاصطناعي، وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات، وعما إذا كانت قواعد المسؤولية الحالية في قانون الموجبات والعقود كافية لمعالجة تلك الأضرار أم لا بد من تنظيم قانوني خاص بالذكاء الاصطناعي؟.

إن الحديث عن المسؤولية القانونية للذكاء الاصطناعي قد يفضي إلى إحداث تغييرات جذرية في قواعد المسؤولية، فمن المعروف تقليدياً في القانونيين اللبناني والفرنسي أن الشخصية القانونية تمنح للشخص الطبيعي والمعنوي ولا يوجد هناك شخصية قانونية ثالثة، وعليه تعالج القواعد الحالية للمسؤولية المدنية الذكاء الاصطناعي على أنه من الأشياء وتطبق عليه القواعد المنصوص عليها في المواد 131 و 132 و 133 م.و.ع. إعمالاً للتفرقة التقليدية في القانون بين الشخص والشيء.

بيد أنه من المهم بداية تكييف الذكاء الاصطناعي ومن ثم من الممكن معرفة القواعد الواجبة التطبيق على الأفعال الضارة التي قد يسببها. فإذا كنا نتفق على أن الروبوتات ليست إنسان ولا حيوان، فهل هي شيء؟ أم أنها ذو طبيعة خاصة؟. هنا برز اتجاه فقهي أوروبي ينادي بإنشاء فئة ثالثة من الأشخاص التي تتميز بالقدرة على التصرف واتخاذ القرارات والإنسجام مع محيطها، أطلقت عليها تسمية “شخصية قانونية رقمية”، ولعل المشرعين في الدول المتقدمة كالصين واليابان والولايات المتحدة وغيرهم أرادوا استشراف مستقبل الذكاء الاصطناعي عبر إعادة النظر في تكييفه القانوني وهو ما دفع البرلمان الأوروبي العام الماضي لإقرار قانون لتنظيم الذكاء الاصطناعي بهدف “تشجيع الإبتكار في أوروبا وحماية المجتمع من الإساءة في استخدامه” على حد تعبير المفوض المكلف الشؤون الرقمية الفرنسي تييري بريتون.

إلا أنه قبل اتخاذ موقف من هذا التوجه الغربي لا بد من الإشارة أن مصطلح “الشخصية القانونية” هو ابتكار تشريعي هدفه حماية الأفراد بالإضافة إلى بعض المصالح والمشروعات والقيم وحتى الكائنات الأخرى التي يرى المشرع أنها جديرة بالحماية. من هنا فإنه من الضروري التمييز بين الإنسان والشخص، فالشخصية القانونية تُمنح للإنسان ليس لأنه إنسان بل باعتباره أهلاً للحقوق والموجبات، وعليه أخرج المشرع صفة الشخصية من نطاق الأنسنة لتتوسع وتشمل كيانات أخرى رأى المشرع أنه هناك حاجة لتمتعها بالشخصية القانونية.

أما فيما يتعلق بالروبوتات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي فإننا نتساءل هنا عما إذا هناك حاجة لمنحها الشخصية القانونية؟، هنا لم يتفق الفقه حول توجه واحد، ففي حين ينكر البعض تلك الشخصية على أساس

أن الروبوتات الذكية لم تصل بعد إلى درجة الإدراك والتمييز التي تؤهلها لاكتساب الشخصية القانونية التي يتمتع بها الإنسان، كما إن الشخصية القانونية هنا غامضة، فهل تُمنح للهكيل الخارجي للروبوت أم للذكاء الاصطناهي نفسه؟. وفي هذا الإطار يقر الفقه الفرنسي بخطورة الاعتراف بالشخصية القانونية للذكاء الاصطناعي لما يمكن أن يتسبب ذلك بمخاطر عديدة أبرزها عدم مسؤولية مستعملي ومصممي الذكاء الاصطناعي، وهو ما يؤدي لعدم الحرص على تصنيع ذكاء عالي الجودة وغير خطر(1).

 بينما يرى البعض الآخر أنه من اللازم إعادة النظر بالشخصية المعنوية لتشمل الذكاء الاصطناعي وذلك على أساس أن الوسائط الالكترونية الذكية أصبح لديها القدرة على عرض الإيجاب وقبول التعاقد، وهو ما يؤدي إلى نشوء علاقة قانونية ملزمة للطرفين. ويضيف هذا الاتجاه أن بعض الروبوتات باتت تتصرف بحرية تامة ودون تدخل من الإنسان وبالتالي فهي تتحمل المسؤولية عن أفعالها كأي شخص آخر(2).

 في الواقع نرى أن هذه الحاجة متوفرة عملياً خصوصاً أن الذكاء الاصطناعي دخل غالبية المجالات بما في ذلك المجال القانوني، ومن المرجح مستقبلاً أن يكون هناك تخصصات قانونية في مجال الذكاء الاصطناعي، كما أن بعض الروبوتات مستقلة في اتخاذ القرارات وبالتالي فهي تتمتع بوعي ذاتي وإرادة حرة، ولذلك نرى أنه من اللازم على المشرع اللبناني، والعربي بشكل عام، التنبه لذلك ومنح هذا الذكاء نوع من الشخصية القانونية متميزة عن تلك الخاصة بالإنسان والشخص المعنوي تهدف الى ضبط استخدام هذا الذكاء من جهة وحماية المجتمع من الأضرار الناجمة عنه ضمن قواعد قانونية وأخلاقية واضحة. هذا مع العلم أن المشرع الأوروبي تأرجح في موقفه حيث قضى في قراره الصادر بتاريخ 16/2/2017 بإصدار قواعد القانون المدني الأوروبي بشأن الروبوتات، بإخراجها من فئة الأشياء وتبني نظرية النائب الإنساني المسؤول عن أنظمة الذكاء الاصطناعي كبديل عن فكرة الحراسة القانونية التقليدية. إلا أنه عاد وتراجع عن هذه الفكرة في القرار الصادر بتاريخ 20/10/2020، والذي قضى أنه لا توجد حاجة لإقرار شخصية قانونية للذكاء الاصطناعي، إنما الاكتفاء بإدخال تعديلات على التشريعات الحالية بما يتوافق مع خصوصية الذكاء الاصطناعي(3).

رغم هذا التقلب في موقف المشرع الأوروبي والجدال الفقهي الحالي، إلا أن ذلك لا يعني إنكار منح الذكاء الاصطناعي شخصية قانونية، ونعتقد أن المشرع الأوروبي أراد من خلال هذه الشخصية المستحدثة حماية هذا الذكاء وضبط سلوكه وكذلك حماية المجتمع من الأضرار التي قد يسببها، وبالتالي لا نرى أن الهدف من هذه الشخصية معاملة الذكاء الاصطناعي مثل البشر والأشخاص الاعتباريين لناحية منحه شخصية مستقلة وما يترتب على ذلك من حقوق كالحق في العمل والتملك واللجوء للقضاء وحرية التعبير وغيرها، ولذلك يمكن الاعتبار أننا أمام شخصية قانونية متميزة عن تلك المتعارف عليها وهي مشابها نوعاً ما لتلك الممنوحة للإنسان غير المميز وحتى للحيوان الذي أقر له المشرع بعض الحقوق وجرم أي اعتداء عليه أو تعذيب يطاله.

إنطلاقاً مما تقدم فإنه على ضوء هذه الشخصية القانونية التي يمكن تسميتها بالشخصية الرقمية أو الالكترونية، فإنه بات من الضروري وضع تنظيم قانوني خاص بالذكاء الاصطناعي يعالج المسؤولية عن الأضرار الناجمة عن سلوكه الخاطئ، والواقع أن هذا الحديث ليس خيالياً أو سابق لأوانه، بل هو حقيقة قائمة وحاجة ماسة، وجدير بالذكر هنا أن المشرع في ولاية نيفادا الأميركية اعترف للروبوتات ببعض سلطات الشخص المعنوي، حيث أنشأ سجل خاص بها، وخصص لها ذمة مالية مستقلة، وجعلها مسؤولة عن الأضرار التي ترتكبها(4)، كما قامت دولة الإمارات بإنشاء وزارة للذكاء الاصطناعي وإصدار قانون اتحادي بشأن التشريعات التجريبية لتقنيات المستقبل.

بيد أنه يبقى التساؤل عن نوع المسؤولية الناجمة عن السلوك الخاطئ للذكاء الاصطناعي، وهنا لم يتفق الفقه حول توجه محدد، كما لم يجمع حول مدى كفاية قواعد المسؤولية المدنية في الإحاطة بالضرر الناجم عن خطأ الذكاء الاصطناعي، ولكن يمكن القول أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن اعتباره شيء، وفقاً للمفهوم التقليدي للأشياء في قواعد المسؤولية المدنية، وبنفس الوقت فإنه مازال يفتقد للعديد من الصفات الإنسانية، وبالتالي هناك نوع من التداخل بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي توجب على المشرعين كافة اتخاذ خطوات جريئة حيال قواعد المسؤولية المدنية للذكاء الاصطناعي بالنظر لخصوصيته وطبيعته الفريدة، سيما وأن أي قانون هو وليد التطورات والمتغيرات التي تحصل.

المراجع والمصادر

رضا محمود العبد، “الشخصية القانونية الإفتراضية نحو الاعتراف بالشخصية القانونية للروبوتات المزودة بالذكاء الاصطناعي”، مجلة القانون والتكنولوجيا، المجلد 3، العدد 2، أكتوبر 2023.

صدام فيصل المحمدي، سرور علي الشجيري، “نحو اتجاه حديث في الإعتراف بالشخصية القانونية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي – دراسة قانونية مقارنة”، المجلة النقدية للقانون والعلوم السياسية، المجلد 18، العدد 1، 2023.

رضا محمود العبد، المرجع نفسه.

معمر بن طرية، “أضرار الروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي: تحد جديد لقانون المسؤولية المدنية الحالي، لمحات في بعض مستحدثات القانون المقارن”، مجلة حوليات جامعة الجزائر، عدد خاص بالملتقى الدولي المنعقد تحت عنوان: الذكاء الاصطناعي، تحد جديد للقانون. نوفمبر 2018.